السّلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
أسعد بلقائكم أساتذتي الأفاضل في فقرة ( إضاءات نقدية ) و هذا العدد سيكون بعنوان:
واقع و رهان
قراءة في الومضة الموسومة بـ ( سجين ) للكاتب المصري طارق يحي حجاب.
الومضة:
سَجِينٌ
( قَطَعُوا عَنهُ الزِّيَارَةَ؛ وَصَلَهُ إِيمَانُهُ. )
يعمل الكاتب من البداية على تعرية الواقع الذي يعيشه كل سجين مظلوم ، فبعد التّأمّل فيما نعيشه ها هو الوامض يبدع في تصوير مشهد خاطف (فلاش باك) و كأنّه بطريقة أو بأخرى يحفر في ذاكرتنا وشم المعانات التي صارت تتلاحق كالأمواج لترمي بنا في غيابات اليأس، هذا اليأس الذي لن ينمحيي إلاّ حينما يأتي عليه الإيمان الصّلد و اليقين الرّاسخ فيدمغه.
إنّ أيّ نص كان، يعتليه عنوان هو بمثابة العتبة الأولى له ، و هو في هذه الومضة ورد بصيغة المفرد النّكرة الدّالة على إمكانية التّعميم ، و في المعاجم اللغوية يأتي لفظ ( السّجين) بمعنى المسجون و المعتقل، و هو ما يجعل الكثير من الـتأويلات تزدحم في مخيّلتنا، و هذا من صميم وظيفية العنوان المتمثّلة في ( إغراء المتلقّي ) أي أنّ الوامض يجرّنا إلى رسم أبعاد المكان ، فهذا السّجين هو الآن داخل زنزانة و التي مجرّد التّفكير فيها يُفقد الحياة طعمها ، فما بالك بدخولها، وربّما الوامض يوحي لأمر أعمق ، فالسّجين هنا قد نسمه بسجين الرّأي ، و نحن على علم من أنّ من سُجِن قد يكون السّبب وراء ذلك اختلافه في الرّأي مع الحاكم أو مع المستدمر الجائر على الضّعفاء .
من هنا يمكن لنا فكّ أحجية السّجين ، كون المقصود من الومضة يعيش في عزلة بين شقيّها تماما كما هو الحال عند السّجين المرمي في ديجور الزنزانة ، وما علينا إلاّ تقصي المقصود الذي بدا صادما في شقّ الومضة الأوّل ، فذاك السّجين الذي سُلِبَ الحريّة و تجرّع الاستبداد قد سُلِب كذلك أمرا آخر هو في الأصل لا يسمن و لا يغني من جوع عدا اكتحال العين بمن البعد عنهم و فراقهم سبَّبَ للقلب لوعة ، فِعلاً هذا السّجين قد حُرِم من الزيارة ، وقد كان أمرا متعمّدا ، فيه ما يدلّ على نذالةٍ و قذارةٍ تنبعث من أشباه بشر لم تسلك الرّحمة طريقا لقلوبهم .
ينبو إقدامهم على عمل كهذا على جبن متأصّل من أجداد الأجداد ، فهم يعشقون الحياة ، و يمقتون الموت و لربمّا يأتي عليهم زمان من حنقهم سيحرمون السّجين حتّى الهواء برميه في غيابات الأرض العميقة.
و لأنّ الوامض عمد إلى الإيجاز و الاختصار نقلنا بسرعة البرق إلى متضادة برع في تصويرها في شقّ الومضة الثّاني ، و الذي سيستدعي حتما مفارقة عمّا سبق ، فإن هم قطعوا أسباب الزيارة ظنّا منهم بتحقيق مبتغاهم فذاك ضرب من الخطأ ، إذ مَن صاحب اليقين و الثّقة حتما سيثمر إيمانه و يينع ، لأنّه في الأصل صاحب مبدأ ثابت ، ضارب في الأعماق كما الجبال الرّاسية ، متشبع بكلّ معاني البسالة و الشّجاعة ، هذه الإرادة التي من حديد ، قذفت الرّعب في قلب المستبدّ مسيرة عمر.
الأسلوب الذي اعتمده الكاتب غاية في السّلاسة ، و هو ما جعله يمرّر رسالته إلى المتلقي دونما عناء ، جاعلا من ومضته دافعا لنا على نفض الغبار عن قضية باتت تنخر مجتمعاتنا ، و هي من بين القضايا التي من الأجدر بنا تتبّع أسبابها و مراميها.
كما تميّز الأسلوب أيضا بالدقّة في التّصوير من خلال التّكثيف و هو أمر مطلوب في كتابة الومضة ، فالنّص هو جملتان فعليتان ، ابتدأتا بعل ماض ، حيث اُعتمد على ضمير الجماعة الغائبين في الفعل ( قطعوا) الدّال على تدبير مؤامرة حيكت خيوطها بعيدا عن الأنظار ضدّ وحيد عاد عليه ضمير المفرد في الفعل ( وصله ) للدّلالة على كلّ من كان وحيدا و قد انقطعت عنه كلّ أسباب المساندة و الدّعم، هذا السّجين الذي لا حول له و لا قوة هو بحاجة إلينا و الواجب علينا الانتفاضة ضدّ هكذا تجاوزات ، حتّى و إن كنّا في الأصل سببا فقط في وصول إيمانه إليه و لكنّها تبقى نعم المؤازرة .
ومضة بحقٍ تنبئ بمشروع أدبي واعد على جميع الأصعدة ، سواء ما تعلّق بالجانب اللغوي المعجمي، أو الجانب الموضوعي أو الفني ، أو حتى الجانب الاجتماعي إذا ما اعتبرنا الكاتب صاحب وعي جمعي ناضج.
تحيّة للكاتب الأستاذ طارق يحي حجاب ، و التّحية موصولة لفارسنا المعطاء الأستاذ حمدي الكحلوت أبو عماد ، و لكلّ فارسات و فرسان اللغة و الأدب من خلال هذا الصّرح الأدبي.