نظرة موضوعية في المجزوءة
..
التعريف بالمجزوءة
المجزوءة هي لون أدبي سردي يقوم على اجتزاء النواة الأصلية للسرد فى متن قصصي مكتمل الأبعاد وتقديمها للقارئ في شكل حواري بارق ليُعمل الذهن في استكمال النسق السابق عليها والذي لم يظهر في السرد، واستنتاج مدلولات القفلة التي وردت في المجزوءة، وهي بذلك تعتمد على الاقتضاب وشدة التكثيف، والمفارقة والانزياح، واستعمال النثر السردي بعيداً عن لغة الشعر والموسيقى الخارجية للمفردات، وعلى ذلك؛ تكون المجزوءة استنساخا محمودا من جنس القصة القصيرة جدا أو القصة القصيرة أو الرواية، ففي كل هذه الأجناس السردية سوف نجد شواهد كثيرة للمجزوءة.
خصائص القص المجزوء
أولا؛ كونها مجزوءة يشير إلى أنها بعضٌ مكتوب من كلٍّ غير مكتوب، وهذا الجزء هو لفتة من حوار تفاعلي بين اثنين، ينتقل الحديث إلى أحدهما فيعقب على قول سابق لا يذكره النص، بمعنى أنها تمثل ما قاله محاور واحد كرد على محاور غائب عن المشهد ككل، وهذا جانب من التجديد في الخطاب السردي.
النموذج
مقايضة
ـ لا، يا صديقي، أنا لا أبيع الكلام… أنا أشتري العقول.
. د. رفاء صائب
ابتداء النص بنفي مستقل (لا) دل على جواب لطلب سابق، ثم يأتي تفصيل هذا الجواب(أنا لا أبيع الكلام) وللقارئ أن يتخيل ماهية الجزء المحذوف سلفا من السرد، فيستعين بالقفلة (أنا أشتري العقول)
ثانيا؛ تتميز بالسرعة في السرد وإغفال جانب التوصيف وترصيص المفردات بأقل روابط ممكنة، لذلك فهي تنتمي لأسلوب السرد المقتضب وليس المتسلسل.
النموذج
بحر
ـ أنقذ طفلي، أرجوك، وسأكفر بعروبتي.
. حسام ياقوت
لم يستحدم الكاتب أيا من عبارات أو مفردات التوصيف في لغة النص وإنما جاء المشهد ذهنيا، طفل يغرق واستغاثة الأب بالمنقذ، والمفارقة مع النهاية هي ما وراء السرد الظاهر.
ثالثا؛ الإغلاق بفكرة تتجاوز المفارقة السطحة التصويرية للمفردات إلى مفارقة تأملية ذهنية متعددة التأويل، ومن ثم نرى الاتجاه الفكري المتردد بين الفلسفة والمنطق، فمع نهاية المجزوءة نجد في الخاتمة مبحثا عميقاً يتوقف عنده ذهن المتلقي بالتأمل، فهي تفتح أبواباً للعقل على ماهو أبعد من السرد، وذلك ما يسمى بالميتاسرد أو ما وراء القص(metafiction) وهو وجود تخييل وجداني وراء التخييل اللفظي، وكأن النص يعلق على نفسه وهويته كما لو كان للنص وعيا ذاتيا، أو أن الكاتب يعكس ذاته من خلال السرد (self reflexivity) وهذا الاتجاه معروف في كل الأجناس السردية الأصيلة في الأدب
النموذج
وجود
لماذا لا أظهر في صور عرسكِ، يا أمّي؟
د/ سامي قباوة
يحمل هذا النص فكرا مباشراً عن براءة الأطفال، أو الفضول الذي يدفعهم لإلقاء أسئلة محيرة سوف يلقنه الزمن إجابتها لا ألسنة الأهل، ثم يضمر الكاتب أفكارا أخرى خفية يعبر عنها العنوان( وجود) بين التسلسل البشري وخلافة الانسان في الأرض، وذكريات العرس للأم، وكل ذلك يشير إلى فكرة فلسفية بارقة أفرزتها قريحة الكاتب فسطرها في كلمات مختزلة.
رابعا؛ من حيث الشكل البنائي هي ذلك العنوان الذي يتشعب معناه في النص والتزم الكتاب بأن يكون مفردا في غالب النصوص ونكرة ليضمن تعميم الحدث، ثم علامة ترقيم تدل على أن هناك حوار سابق وأرى أن الثلاث نقاط ممتالية (...)هي الأنسب كونها تعبر عن كلام محذوف، أما الشارطة(-)فتوضع بين عدد ومعدود، ثم متن شديد الاقتضاب من جملة بحد أدنى وثلاث بحد أقصى، مع تضمين علامات الترقيم بكل دقة، وهو ما يشبه القصة القصيرة جدا، لذلك أقول أن المجزوءة هي لون من ألوان ققج، وكلمة (مجزوءة) كصفة لابد لها من موصوف، وبما أنها سرد مستنسخ من ققج فيصح نسبتها إليها وإطلاق مصطلح (ققج مجزوءة) على نصوص المجزوءات.
النموذج
ويلات
ـ لا تقل إنّ الحرب لم تمرّ من هنا. لكلّ مكانٍ مجزوءةٌ تحكي القصّة كاملةً.
د/سامي قباوة
..........................................
تقنيات النقد الأدبي للمجزوءة
بناءً على ماتقدم من خصائص المجزوءة فإنها تحتاج إلى نمط خاص من النقد في كل مسارات الفكرة المطروحة وانزياحات اللفظ وإسقاطات الحوار على الواقع، وتفنيد أدق تفاصيل اللغة في المتن بداية من العنوان، ومرورا بالعبارات المكتملة المعنى، ثم تفكيك المتن إلى أصغر مكوناته وهي الحروف ثم المفردات، لقلة المعطيات اللفظية يجب وضع النص كاملا تحت مجهر النقد والاستفادة من الربط بين التفاصيل في استنتاج تأويلات ومدلولات الفكر، وكذلك فإن شخصية الكاتب سوف تتضح جزئيا من خلال النص كما سبق ذكره لأن المجزوءة تعبر عن الانعكاس الذاتي لكاتبها.
وعلى ذلك يكون النقد في محاور الفكر ومنطَقة الحدث وتفاصيل اللغة وأساليب اللغة والتخييل والتصوير المشهدي، مع مراعاة ضوابط الكتابة من علامات ترقيم وضبط بالشكل.
......................................
أخيرا؛ التقييم الأدبي للمجزوءة
أولا؛ تقدم المجزوءة – من وجهة نظري- لونا حداثيا في صور الأجناس الأدبية السردية المعاصرة، لذلك لن أطلق عليها مسمى (جنس أدبي) بل هي لون أدبي حتى تثبت وجودها على ساحة الأدب، فكل جنس أدبي يؤدي قيمة مكتملة واضحة المعالم في الأدب، لتكوين وصياغة الفكر والوجدان لدى القارئ، والمجزوءة كونها اختزلت الاختزال من الققج فتعتبر شعاع فكري فلسفي كسر متعة اللغة وقلص دور الإبداع البياني والمجازى والموسيقي، ذلك أنها تعتمد على قطع التسلسل والترابط السردي، والبعد عن الصياغات والاستعارات والمحسنات البديعية التى تجمل الأدب.
ثانيا؛ أرى أن تقسيم السرد على نحو يقوم على الكم هو أمر لا حاجة إليه بعد ترسيخ قواعد الأجناس السردية المعروفة، فالرواية هي الأساس، واجتزئت منها القصة القصيرة، واجتزئت منها الأقصوصة، ومنها اجتزئت القصة القصيرة جدا، وإلا سوف تتوالد من الأجناس أجناس بلا حصر، ويصبح التصنيف أمرا شديد التعقيد، ولا يخفى علينا قضية تداخل الأجناس المختلفة في جنس الرواية، فمن الرواية نستطيع اجتزاء الخاطرة والشذرة والومضة والمقال السردي والمونولوج واللافتة الشعرية وحتى القصة القصيرة والقصيرة جدا، فهل يصح أن نقول (شذرة روائية) أو (مونولوج روائي) أو أو أو...؟
ثالثا؛ بتلك الخصائص المميزة للمجزوءة سوف تجد جمهورا خاصا من القراء وجمهورا أشد خصوصية من الكتاب، فهي تتطلب الكاتب المفكر الذي يستطيع صياغة فلسفته وثقافاته وقناعاته في برقية ناقصة، والقارئ المتأمل الذي يخترق حاجز الواقعية إلى ما وراء السرد ليدرك حزمة من التأويلات ثم يفاضل بينها حتى يستقر على ما يطمئن إليه أو يتفهمه.
رابعا؛ من الجميل في المجزوءة أنها تكمل منظومة التنوع والاختلاف في المطروح من الفكر بلغة مدمجة مضغوطة، تتماشى مع ظروف العصر، بل وتقدم كثيرا مما يعن لنا من آلام ومرارة تحت وطأة الحرب والتهجير ومعاناة الفرد والضمير الجمعي، فمنذ ولادة المجزوءة تحملت عبء التفريغ العقلاني واستبطان الكاتب نفسه، وهذا ما يعكس دورا إيجابيا لأدب حداثاوي لم ينعزل عن بيئته.
خامسا؛ تنتسب فكرة المجزوءة إلى الأستاذ الدكتور/ سامي قباوة...سوريا، الحاصل على اجازة في الاداب والعلوم الانسانية من جامعة حلب، وعضو اتحاد الكتاب العرب.
.....................................................................................
نماذج من الققج (المجزوءة)
يتيم
_اقسم لكِ ياأمي، أنه قبلني، لكنيّ استيقظت قبل أن يعطينيّ العيدية.
ياسمين الشامي
........................................................................
بارانويا (عقدة الاضطهاد)
ـ أنت تتجسس علي، وزياراتك كل أسبوع فقط لتغيير بطاريات المسجلة.
. د. هشام أحمد غالي
.........................................................................
طريق
ـ عندما أعبر الحدود فلن ألوّح لهم، لقد قتلوا أمي.
عفاف علي
........................................................................
اغتنام
ـ يا صديقي العزيز، حين قلتُ لك إنّ البيت بيتك لم أتوقّع أنّك ستأخذني إلى الشّهر العقاريّ.
د/سامي قباوة
............................................................................................
سيد عفيفي...29/6/ 2017
